Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

لــولابــيا : قصّة: جان ماري غستاف ليكليزيو الحائز على جائزة نوبل 2008

حافظ محفوظ

2008-10-17


يوم قرّرت لولابيا أن تنقطع عن الدّراسة،كان ذلك في صباح يوم باكر من منتصف شهر أكتوبر. تركت فراشها و اجتازت غرفتها حافية، أزاحت السّتائر لتنظر إلى الخارج، كانت الشّمس قد طلعت بقوّة وحين انحنت قليلا استطاعت رؤية قطعة من سّحاب أزرق. على الرّصيف في الأسفل، رأت ثلاث أو أربع حمامات تقفز وقد نفشت الرّيح ريشها. و فوق سقوف السيّارات الرّاسية، أبصرت البحر، كان أزرق غامضا، وكانت ثمّة مركبة شراعية بيضاء تتقدّم بعسر. لمّا شاهدت لولابيا كلّ ذلك شعرت بارتياح لقرارها بألاّ تذهب إلى المدرسة أبدا….
استدارت باتجاه وسط الغرفة و جلست أمام طاولتها، ودون أن تشعل الضوء شرعت في كتابة رسالة:
أبي العزيز صباح الخير.
الطّقس اليوم جميل، السّماء….
كما أحبّ أن تكون، شديدة الزّرقة. كنت أرجو
أن تكون هنا لترى السّماء
البحر شديد الزرقة أيضا
قريبا يحلّ الشّتاء
إنها سنة طويلة أخرى تبتدئ
أرجو أن تستطيع المجيء قريبا لأنّي لا أعرف
إن كانت السّماء والبحر سيستطيعان انتظارك طويلا.
حين نهضتُ هذا الصّباح
(منذ أكثر من ساعة)،
خلتُ أننّي في اسطنبول من جديدٍ.
أريد أن أغمضَ عينيّ وحين أفتحهما يكون كلّ شيء كما في اسطنبول .
هل تذكر؟ لقد اشتريتَ باقتيْ ورد، واحدة لي وواحدة لأختي لورانس، ورود بيضاء طويلة ذات رائحة قوية “لهذا نسمّيها عطورا”. إنّها ذكيّة إلى درجة كان من الأجدى أن نضعها في بيت الحمّام. لقد قلت لي أنّه بإمكاننا أن نشرب فيها الماء،وذهبت إلى الحمّام وشربت طويلا حتّى فسدت أزهاري.
هل تذكر؟
توقفت لولابيا عن الكتابة. عضعضت طرف قلمها الأزرق لحظة وهي تنظر إلى ورقة الرّسالة دون أن تقرأ. كانت تنظر إلى بياضها فحسب. وفكّرت في أنّ شيئا ما سيظهر. ربّما يكون شيئا شبيها بطيور في السّماء أو سفينة صغيرة بيضاء تعبر رويدا رويدا.
نظرت إلى السّاعة المنبّهة على الطاولة، الثّامنة وعشر دقائق. كانت ساعة منبّهة صغيرة مغلّفة بجلد سحليّة أسود قد لا نحتاج إلى نزعه إلاّ مرّة واحدة في الأسبوع.
كتبت لولابيا على ورقة الرّسالة:
أبي العزيز، أحبُّ أن
تأتي لتستعيد السّاعة المنبّهة
لقد أعطيتَها لي قبل أن أغادر طهران
وقد قالت كلٌّ من أمّي وأختي لورانس إنّها جميلة جدّا
أنا كذلك أجدها جميلة جدّا.أعتقد أنّها لن تصلح لي بعد اليوم.
لهذا أحبّ أن تأتي لتأخذها
ستحتاجها من جديد.
إنّها تعمل جيّدا.
ولا تصدر ضجيجا في اللّيل.
وضعتْ الرّسالة في ظرف، وقبل أن تغلقه بحثت عن شيء آخر تضعه داخله، لكنّ لم يكن على الطاولة شيء سوى بعض الأوراق و الكتب وفتات من البسكويت. فأخذت الظرف وكتبت عليه العنوان:
السيّد بول فرلاند
ب.ر.و.ك.و.م
84 شارع الفردوسي
طهران. إيران.
وضعت الرّسالة على طرف الطاولة وذهبت مسرعة إلى بيت الحمّام لتنظّف أسنانها ووجهها. كانت ترغب في أن تستحم بالماء البارد، لكنّها خشيت أن تسمع أمّها صوت الماء فتفيق من نومها. عدلت عن فكرتها وعادت إلى غرفتها بقدميها الحافيتين. ارتدت ملابسها بسرعة، جمّازة من الصّوف الأخضر و سروال من المخمل الدّاكن وسترة بنيّة. ثمّ ارتدت جوربيها و حذاءها الطويل ذا النّعال المطاطية ومشّطت شعرها الأشقر دون أن تنظر في المرآة، ثمّ وضعت في حقيبتها كلّ ما وجدته حولها، فوق الطاولة وفوق الكرسي: أحمر شفاه، منديل ورقيّ، قلم، مفاتيح، علبة أسبرين، لم تكن تعرف بالضبط إلى أيّ شيء ستحتاج، لذلك أخذت تضع كلّ ما يقع عليه بصرها في غرفتها: خمار أحمر ملفوف، ألبوم صور قديم من القماش المشمّع، مُدية، كلب من الخزف. ثمّ فتحت الخزانة ومن صندوق أحذية كان داخلها أخذت رزمة من أوراق الرّسائل. وفي صندوق آخر وجدت رسما كبيرا طوتْه ووضعته في حقيبتها مع الرّسائل، في جيب معطفها وجدت بعض الأوراق البنكيّة والقطع النقديّة فتركتها تسقط في حقيبتها وفي اللحظة التّي همّت فيها بالخروج استدارت باتّجاه الطاولة وأخذت الرّسالة التّي كتبتها . ثمّ فتحت الدّرج الأيسر وشرعت تبحث بين الأشياء و الأوراق إلى أن وجدت هرمونيكا صغيرة كتب عليها :
صنع في ألمانيا
ECHO SUPER
Vamper
وعليها نقش بحدّ سكّين
(دافيد)
نظرت إلى الهرمونيكا هنيهة ثمّ أسقطتها في الحقيبة التي علّقت على كتفها الأيمن وخرجت.
كانت الشّمس خارج البيت حارّة أمّا السّماء والبحر فكانا يلمعان. بحثت لولابيا بنظراتها عن الحمامات لكنّها لم تجدها، رأت السّفينة الشّراعيّة تتحرّك ببطء منحنية نحو البحر، بعيدا، قرب الأفق.
أحسّت بقلبها يدقّ بقوّة ويتحرّك داخل صدرها. لماذا كانت على تلك الحال؟
ربّما كانت أضواء السّماء تسكرها.
توقّفت أمام منصّة وهي تضغط زنديها على صدرها بقوّة مغمغمة ” كم يضجرني هذا ” ثمّ استعادت طريقها محاولة ألاّ تعيره اهتماما.
كان الناس في طريقهم إلى العمل. يسيرون بسرعة بسيّاراتهم على طول الشّارع في اتّجاه وسط المدينة. الدرّجات النّارية تتسابق مصدرة ضجيجا، كان النّاس في عجلة من أمرهم، داخل السّيارات الجديدة ذات النّوافذ المغلقة، وإذْ يمرّون يديرون أعناقهم لينظروا إلى لولابيا ومنهم من يضغط على منبهاتهم لكنّ لولابيا لا تنظر إليهم . هي أيضا كانت تسير بسرعة في الشّارع دون ضجيج بحذائها المطاطيّ. إنّها تسير في الاتجاه المعاكس، نحو المرتفعات والصّخور وهي تنظر إلى البحر مغمضة عينيها فقد نسيت أن تحمل معها نظّارتيها السّوداء. كانت السّفينة الشّراعية البيضاء تسير في نفس الاتجاه بشراعها المنتفخ في الرّيح وكانت لولابيا تنظر إلى البحر والسّماء الزّرقاوين وإلى الشراع الأبيض وإلى صخور الخليج. كانت سعيدة جدّا لأنّها قرّرت ألاّ تذهب إلى المدرسة أبدا. كلّ شيء كان جميلا كما لو أنّ المدرسة لم توجد إطلاقا.
كانت الرّيح تنفخ في شعرها وتشوّشه. ريح باردة أحرقت عينيها واحمرّت من تأثيرها جلدة وجهها ويديها. فكّرت لولابيا في أنّ السّير في الشّمس وفي الرّيح ممتع، هكذا دون أن تعرف وجهتها.
عندما خرجت من المدينة، بلغت طريق المهرّبين التي تبتدأ عند أجمة صنوبر صغيرة ثمّ تنزل على طول السّاحل إلى حدود الصّخور. هنا، كان البحر أكثر جمالا، عظيما ومغمورا بالأضواء.
كانت لولابيا تتقدّم في طريق المهرّبين ورأت أنّ البحر كان قويّا جدّا، الأمواج القصيرة تصطدم بالصّخور، ناشرة شفرات معاكسة. توقّفت الفتاة الصّغيرة بين الصّخور لتنصت إلى البحر. هي تعرف صوته جيّدا. الماء الذي ينتشر ويتمزّق ثمّ يتجمّع ليفرقع الهواء. إنّها تحبّ هذا، لكنّها تبدو اليوم وكأنّها تستمع إليه للمرّة الأولى. لم يكن هناك إلاّ الصخور البيضاء والبحر والرّيح والشّمس. كان الأمر كما على ظهر سفينة، بعيدا في عرض البحر أين يعيش سمك التنّ والدلافين.
لم تعد لولابيا تفكّر في المدرسة. البحر يمحو أشياء الأرض هذه. هكذا. لأنه أهمّ ما يوجد في العالم. الزّرقة والضوء كانا عظيمين، الرّيح وصوت الموج القويّ والرّقيق. البحر يشبه حيوانا عظيما يحرّك رأسه و يضرب الهواء بذيله.
كانت لولابيا على أحسن حال إذن. ظلّت جالسة على صخرة مسطّحة عند حافة طريـق المهرّبين، و تنظر. فترى الأفـق الصّافي، الخطّ الأسود الذي يفصل البحر عن السّماء،لم تعد تفكّر في الأنهج والمنازل و السّيارات و الدرّجات النّارية إطلاقا.
بقيت زمنا غير قصير على الصّخرة. ثم استعادت سيرها على طول الطّريق.لم تعد هناك منازل.كانت آخر الفيلات وراءها. التفتت لولابيا لرؤيتها فوجدت أنها على هيئة عجيبة، بمغاليقها المقفلة على واجهاتها البيضاء فكأنها تنام. انعدمت الحدائق، كانت ثمة أعشاب لزجة وغريبة بين الصّخور وكريّات مغلفة بالأشواك وصفائح مجرّحة ونباتات العوسج و العلّيق. لا أحد يعيش هنا، فقط عظايات تجري بين أكوام الصّخور ودبابير تطير فوق الأعشاب لها رائحة العسل.
كانت الشمس تلتهب بقوّة في السّماء. الصّخور البيضاء تلتمع والزّبد يتألّق كالثلج.كنّا سعداء، هنا، كما في آخر الدنيا. لم نكن ننتظر شيئا. لم نكن في حاجة إلى أيّ كان. نظرت لولابيا إلى الرأس الذي كان يكبر أمامها، والهضبة المتصدّعة بأكملها على البحر.كانت طريق المهرّبين تصل إلى مخبئ حربيّ ألمانيّ. و كان يجب النزول على امتداد ممرّ ضيّق تحت الأرض. الهواء البارد داخل النّفق جعل الفتاة الصّغيرة ترتعش. كان الهواء رطبا وقاتما كما في داخل كهف. وكانت رائحة البول تنبعث من جدران القلعة. في الجهة الأخرى يفتح النّفق على منصّة من الإسمنت محاطة بجدار قصير. بعض النباتات كانت تنمو في شقوق الأرض.
أغمضت لولابيا عينيها مبهورة بالضوء.كانت أمام البحر والرّيح مباشرة.
فجأة أبصرت العلامة الأولى على جدران المنصّة، كانت مكتوبة بالطباشير بأحرف غليظة وغير منتظمة تقول:
“ابحثوا عنّي”
نظرت لولابيا لحظة حولها، ثم ّقالت بصوت منخفض:
“نعم ولكن من أنت ؟”
مرّ خطاف بحر كبير أبيض اللّون فوق المنصّة وهو يعوي.
هزّت لولابيا كتفيها وواصلت طريقها التي صارت صعبة الآن. لأنّ طريق المهرّبين كانت قد تحطّمت.ربما كان ذلك خلال الحرب الأخيرة. حطّمها أولئك الذين بنوا المخبأ الحربيّ.كان يجب أن تتسلّق وتقفز من صخرة إلى أخرى مستعينة بيديها حتّى لا تنزلق. كان السّاحل يزداد انحدارا وصعوبة وفيما هي في الأسفل كانت ترى الماء الزّمرديّ العميق يرتطم بالصّخور.
لحسن حظّها أنّها تحسن السّير على الصّخور، بل إن ذلك هو أحسن ما تستطيع القيام به، يجب أن تحدّد خطوتها جيّدا حين تنظر، تعاين الطرق الجيّدة والصّخور الّتي تمثّل درجا ولوحات للقفز، يجب أن تتنبّأ بالمسالك الّتي تقود نحو الأعلى. تتجنّب الصّخور الهشّة والثّغرات وأدغال الشّوك .
ربّما كان هذا عمل حصّة الرّياضيات. نفترض صخرة تصنع زاوية ب45 درجة وأخرى تبعد 2،50 مترا عن كثيف من اللّزان. أين يمرّ المماس؟ كانت الصّخور البيضاء تشبه قماطر. تخيّلت لولابيا وجه الآنسة “لورتي” الحادّ وهي تجلس فوق صخرة كبيرة في شكل شبه منحرف ظهرها إلى البحر. ربّما لم تكن المشكلة رياضيّة بأتمّ معنى الكلمة. يجب في هذه الوضعيّة أن نحدّد مراكز الثقل: “سطّروا خطّا عموديا على الخط الأفقي لنحدّد الاتجاه بدقّة. هكذا كان السيّد “فيليبي” يقول. كان واقفا، باتزان على صخرة مائلة، وهو يبتسم بتسامح. شعره الأبيض يصنع تاجا في ضوء الشّمس وعيناه الزرقاوان تلمعان بطريقة عجيبة وراء نظّارتي قصر النّظر.
كانت لولابيا سعيدة لأنّها اكتشفت أنّ جسمها يجد الحلول للمشاكل بسهولة. مالت إلى الأمام ثمّ إلى الوراء. أخذت تتوازن على رجل واحدة. ثمّ قفزت بليونة فتحطّ قدماها على النقط الّتي تحدّدها بالضّبط “جيّد جدّا يا آنسة ” هكذا سمعت صوت السيّد فيليبي في أذنها. “الفيزياء علم الطبيعة. لا تنسوا هذا أبدا. واصلوا هكذا إنّكم على الطّريق الصّحيحة”.
همست لولابيا :”نعم ولكن إلى أين؟”
بالفعل لم تكن تعلم إلى أين يقودها هذا. توقّفت مرّة أخرى لتستعيد أنفاسها، ونظرت إلى البحر ولكن، هنا أيضا كان ثمّة مشكل. لأنّ الأمر يتعلّق بحساب زاوية انحراف الشّمس على مساحة الماء. فكّرت لولابيا أنّها لن تنجح أبدا.
سمعت صوت السّيد فيليبي في أذنها:
“لنر، طبّقوا قوانين ديكارت”.
بذلت لولابيا مجهودا كبيرا كي تتذكّـر:
” الشّعاع المنكسر…” قالت لولابيا وأضافت:
“لكن يبقى تخطيط زاوية السّقوط مجهولا … ”
سمعت فيليبي يقول :
“قانون ثان إذن ؟ ”
“عندما تكبر زاوية السّقوط تكبر زاوية الانحراف والعلاقة بين جيوب هذه الزّوايا ثابتة”
جيب إ
ـــــ = عدد ثابت.
جيب ر
“دليل الماء/ هواء؟ ”
“1،33 ”
“قانون فوكو؟”
“دليل وسط بالمقارنة مع آخر مساوٍ لعلاقة سرعة الوسط الأوّل مقسوما على الثاني”
“ماذا ينتج؟”
” ن 2/1 = ف1/ف 2 ”
كانت أشعّة الشّمس تتدفّق من البحر دون توقّف. تحوّلت الحالة من الانحراف إلى الانعكاس بسرعة إلى درجة أن لولابيا صارت عاجزة عن القيام بحسابات. فكّرت أنّها ستكتب فيما بعد إلى السيّد فيليبي لتسأله في الأمر. كان الجوّ حارّا، أخذت الفتاة الصّغيرة تبحث عن مكان تستطيع السباحة فيه. وجدت خليجا صغيرا غير بعيد به أنقاض رصيف. نزلت إلى حافة الماء ونزعت أثوابها.
كان الماء شفّافا جدّا وباردا. غطست لولابيا دون تردّد فشعرت بالماء يضغط على مسامات جلدها، سبحت مدّة طويلة تحت الماء بعينين مفتوحتين. جلست إثر ذلك على اسمنت الرّصيف لتتجفّف. كانت الشّمس في محورها العموديّ. لم تعد الأضواء تنعكس بل تلتمع داخل قطرات الماء بقوّة. تلك القطرات العالقة ببطنها وعلى زغب فخذيها.
كان للماء البارد تأثير طيّب عليها لقد غسل الأفكار في رأسها، فلم تعد الفتاة الصّغيرة تفكّر في مشاكل المماسات ولا في الدّلالات المطلقة للأجسام. كانت بها رغبة في كتابة رسالة إلى والدها. بحثت عن كنّش أوراق الرّسائل في حقيبتها و بدأت تكتب بقلمها الجافّ في ذيل الصّفحة أوّلا. كانت يداها مبلّلتين تتركان آثارا على الورقة:
“لــلاّبي
تقبّلك.
تعال بسرعة حيث أنا”
ثمّ أخذت تكتب وسط الورقة:
” ربّما أكون بصدد ارتكاب قليل من الحماقات.
لا يجب أن تغضب منّي، كنت أشعر بالفعل….
أنّي داخل سجن. أنت
لا تستطيع أن تعرف. بل تعرف.
ربّما تعرف كلّ هذا لكنّك تمتلك الشجاعة
للبقاء، أمّا أنا فلا، تخيّل كلّ هذه الجدران.
في كلّ مكان ،جدران كثيرة إلى درجة لاستطيع إحصاءها
جدران بأسلاك حديدّية شائكة
وأسيجة وأعمدة في النوافذ
تخيّل السّاحة بكلّ الأشجار التي أكرهها. أشجار أبي خروع و الزّيزفون وخاصّة الدّلب.
أشجار الدّلب بشعة جدّا فهي تخلع لحافها كأنها مريضة ”
ثمّ أخذت تكتب في مكان عال من الورقة:
“تعلم، أرغب في أشياء كثيرة، هناك أشياء كثيرة، كثيرة، كثيرة.
أرغب في أشياء كثيرة، لا أستطيع أن أجزم إن كان بإمكاني إن أخبرك عنها.
أشياء مفقودة جدّا هنا.أشياء كنت أودّ رؤيتها…
في السّابق…
الأعشاب الخضراء والأزهار والطّيور والأنهار، لو كنتَ هنا،
لكان بإمكانك أن تذكرها لي فأراها تظهر حولي،
لكن ما من أحد في المعهد يستطيع الحديث عن هذه الأشياء.
البنات غبيّات إلى حدّ البكاء. الأولاد بلهاء
إنّهم لا يحبّون غير درّاجاتهم النّاريّة وستراتهم”
صعدت إلى أعلى الورقة تماما وكتبت:
“أبي العزيز، صباح الخير. اكتب إليك
من على ضفّة شاطىء صغير. إنّه صغير جدّا وأعتقد انّه شاطئ لشخص واحد، له رصيف مهدّم أجلس عليه أنا الآن (لقد سبحت كما ينبغي).
البحر يرغب بشدّة في ابتلاع هذا الشاطئ الصّغير، إنّه يرسل ألسنته إلى العمق. فلا مجال لنبقى غير مبلّلين! سيكون في الرّسالة بقع ماء كثيرة،أرجو أن يعجبك هذا. أنا وحيدة هنا لكنّني أتسلّى كما ينبغي. لن أذهب إلى المعهد. لقد قرّرت. يكفي. لن أذهب أبدا حتّى و إن هدّدوني بالسّجن.وليكن، لن يكون السّجن أسوأ”.
لم تبق مساحة بيضاء كافية على الورقة، فأخذت لولابيا تلهو بملء الفراغات الواحد تلو الأخر وهي تكتب كلمات وأعقاب جمل دون تخطيط:
“البحر أزرق”
“شمس”
“إرسال نباتات سحلب بيضاء”
“خسارة أنّ الكوخ الخشبيّ ليس هنا”
“اكتب لي”
“هناك سفينة تمرّ إلى أين؟ ما هي وجهتها يا ترى؟ ”
” أريد أن أكون فوق جبل عال”
“خبّرني عن الضوء عندك”
” حدّثني عن صيّادي المرجان”
“كيف حال سلوقي”.
أكملت ملأ آخر المساحات البيضاء بكلمات:
” طحالب”
“مرآة”
” بعيد ”
“دودة برّاقة ”
” سباق ”
” جزيرة ”
” نجمة”
طوت الورقة بعد ذلك ووضعتها في الظّرف مع ورقة عشب لها رائحة العسل.
عندما صعدت عبر الصّخور رأت نفس تلك العلامات الغريبة ثانية مكتوبة على الصّخور بالطّباشير كان هناك أسهم أيضا تبيّن الطريق التي يجب اتخاذها. قرأت على صخرة كبيرة مسطّحة :
” لا تيأسي ”
وغير بعيدة قرأت:
” قد تنتهي بذيل سمكة “.
نظرت لولابيا حولها من حديد. لكن لم يكن ثمّة أحد على امتداد البصر، فأكملت طريقها. تسلّقت ونزلت ثمّ قفزت فوق الشّروخ، وصلت في النّهاية إلى طرف الرأس أين يوجد سهل حجارة و المنزل اليوناني.
وقفت لولابيا مندهشة، فلم يسبق لها أن رأت منزلا جميلا كهذا. كان مبنيا بين الصّخور و النباتات الدّهنيّة، قبالة البحر على شكل مربّع وهو بسيط جدّا، به شرفة تحملها ستّة أعمدة وهو يشبه معبدا مصغّرا. كان بياضه يبهر البصر وهو صامت و منزو، قبالة مجمع صخور وعر يحميه من الأنظار و الرّيح.
اقتربت لولابيا من المنزل رويدا رويدا بقلب يخفق بسرعة. لم يكن ثمّة أحد، فلا بدّ أن يكون قد هُجر من سنين. فالشرفة قد غمرتها الأعشاب و العلّيق، أمّا الأعمدة فقد التفّ عليها اللّبلاب. حين دنت من المنزل رأت كلمة منقوشة على الباب وعلى جبس الرّواق:
” كزابيما”
قرأت لولابيا الاسم بصوت عال وفكّرت أنّه لا وجود لبيت يحمل هذا الاسم الجميل. كان هناك سياج يحيط بالمنزل، سارت بجانبه لتجد منفذا. وصلت إلى مكان كان فيه السياج مرفوعا، مرّت منه حابية على أربع، لم تكن تشعر بالخوف. وصلت إلى مكان صامت. مشت لولابيا في الحديقة إلى حدّ السلّم وتوقّفت أمام باب البيت. بعد لحظة من التردّد دفعت الباب . كان داخل البيت مظلما. انتظرت قليلا حتّى تتعوّد عيناها. رأت غرفة وحيدة بجدران مهدّمة، مفروشة بالفضلات من الخرق القديمة و الجرائد. كان داخل البيت باردا. أكيد أنّ النّوافذ لم تفتح من سنين، حاولت فتح مصاريعها لكنّها ظلّت ثابتة. عندما تعوّدت عينا لولابيا على العتمة اكتشفت أنّها لم تكن الوحيدة التي دخلت إلى البيت.
كانت الجدران مغلّفة بكتابات ورسوم فاحشة. شعرت بغضب كأنما كان البيت ملكا لها حقّا. حاولت محوها بخرقة ، خرجت بعد ذلك إلى الشرفة وجذبت الباب بقوّة فتكسّر مقبض الباب وكادت تسقط. كان البيت جميلا من الخارج، جلست في الشرفة مسندة ظهرها إلى أحد الأعمدة وأخذت تنظر إلى البحر أمامها. كان ذلك رائعا، صوت البحر والرّيح التي تنفخ بين الأعمدة البيضاء. كانت السّماء والبحر يبدوان بلا نهاية من بين البراميل المستقيمة. لم نعد فوق الأرض ولم تعد لنا جذور.كانت الفتاة الصّغيرة تتنفّس بهدوء وهي متكئة على العمود البارد تشعّ كلّما دخل الهواء رئتيها كأنّها كانت تصعد إلى السّماء الصافية فوق اسطوانة البحر. كان الأفق خيطا رقيقا ينحني كقوس وكانت الأضواء ترسل أشعتها المستقيمة، كأنّما في عالم أخر على حافة الهرم.
سمعت لولابيا صوتا آتيا مع الريّح، قريبا من أذنيها. لم يكن ذاك صوت السيّد فيليبي بل هو صوت ضارب في القدم اخترق السّماء والبحر. كان الصوت الرّقيق والخشن يدوّي حولها في الأضواء الدّافئة وهو يردّد الاسم القديم الذي أطلقة عليها أبوها ذات يوم قبل أن تنام: “أريال…أريال….”
صوتها كان هادئا في البداية ثّم اخذ يقوى شيئا فشيئا وهي تغنّي اللّحن الذي لم تنسه من سنين كثير ة:
“حيث تمتصّ النّحلة امتصّ.
استلقي في نواقيس الأسى
حينها أراه بحميميّة يعبق
فوق ظهر الخفاش سوف أطير
بعد الصّيف بسعادة في الزّحمة
بسعادة، بسعادة سوف أغادر الآن
تحت البراعم التي تتدّلى من الأغصان”
كان صوتها العذب يذهب في الهواء الطّلق الذي يحملها فوق البحر. كانت ترى كلّ شيء وراء السّواحل الضّبابية والمدن والجبال وطريق البحر العريضة أين تتقدّم صفوف الأمواج. كانت ترى كلّ شيء إلى حدود الصفّة الأخرى. ما يزال حزام الأرض البنيّ والغامض بعيدا كالسّراب، القمّة الثلجيّة لجبل ” كوهابي ألبورز” . بقيت لولابيا مدّة طويلة متكئة على العمود وهي تنظر إلى البحر وتغنّي لنفسها أغنية أريال وأغنيات أخرى كان أبوها قد وضعها. ظلّت هناك إلى أن صارت الشّمس قريبة جدّا من خيط الأفق وصار البحر بنفسجيّا. غادرت البيت اليوناني وقفلت راجعة إلى طريق المهرّبين باتجاه المدينة. عندما وصلت شاهدت طفلا عائدا من الصّيد. التفت الطفل لينتظرها.
” مساء الخير ” قالت لولابيا.
“سلام ” قال الطفل.
كان وجهه جديّا وعيناه الزرقاوان مخفيتين بنظارتين، كان يحمل بوصة طويلة وكيس صيد وقد ربط حذاءه حول عنقه ليمشي، سارا معا يتجاذبان بعض الحديث وحين وصلا إلى آخر الطّريق، كان النّهار قد أوشك أن ينتهي، جلسا على الصّخور ليشاهدا البحر.
ارتدى الطفل حذاءه وأخذ يروي للولابيا حكاية نظّارتيه ، قال إنّه منذ سنين أراد أن ينظر إلى كسوف الشّمس ومن يومها والشّمس مرسومة في عينيه.
كانت الشّمس في طريقها إلى الغروب، شاهدا النّاظور يضاء ، والانعكاسات وأضواء الطّائرات. أصبح الماء أسود، وقف الطفل صاحب النّظارتين أوّلا، جمع بوصته وكيسه ولوّح بيديه إلى لولابيا قبل أن ينصرف. عندما ابتعد قليلا صاحت به لولابيا:
” أرسم لي صورة غدا “. فوافق الطفل بحركة من رأسه.
(2)
مرّت أيّام عديدة ولولابيا تسير بجانب المنزل اليوناني. إنّها تحبّ هذا الوقت، بعد أن تكون قد قفزت فوق كلّ تلك الصّخور لاهثة بسبب ركضها وتسلّقها منتشية، هنا وهناك. كانت ترى ذلك الطّيف وهو يظهر قبالة الهضبة، أبيض وغريبا يشبه سفينة راسية. كان الجوّ في تلك الأيّام جميلا جدّا، كانت السّماء والبحر زرقاوين وكان الأفق صاف جدّا بحيث يمكّن من رؤية قمم الأمواج. عندما تصل لولابيا أمام البيت، تتوقّف ويزداد خفقان قلبها سرعة وقوّة وتشعر بحرارة غريبة في شرايين جسدها. كانت تحسّ بأنّ في ذاك المكان سرّا بلا شكّ.
كانت الرّيح تنزل دفعة واحدة وكانت هي تشعر بكلّ أشعّة الشّمس تلفّها بهدوء وتكهرب بشرتها وشعرها. كانت تتنفّس بعمق أكبر كمن يعتزم الغوص تحت الماء.
كانت تقوم بدورة حول السّياج إلى حدود الفتحة وتقترب من البيت بهدوء وهي تنظر إلى الأعمدة الستّة البيضاء المستقيمة ، ثمّ أخذت تقرأ بصوت عال تلك الكلمة السّحريّة المكتوبة في جبس الرّواق الدّاخلي، ربّما يكون بسببها قد وجد كلّ هذا السّلام وهذا الضّوء :
” كاريزما ”
كانت الكلمة تشعّ داخل جسمها، كأنّها كتبت فيها أيضا وقد كانت في انتظارها. كانت لولابيا تجلس على أرض الشرفة، ظهرها مسند إلى آخر عمود من أعمدة الجهة اليمنى و تنظر إلى البحر.
كانت الشّمس تلهب وجهها، وكانت أشعّة الضّوء تخرج منها، من أصابعها ومن عينيها وفمها وشعرها وتلتقي بلمعان الصّخور والبحر.
كان ثمّة الصّمت، صمت كبير و قويّ بشكل جعل لولابيا تشعر بأنّها ستموت بسرعة. كانت الحياة تنجذب عنها وتذهب في السّماء والبحر، كان أمرا يصعب فهمه، لكنّها كانت واثقة بأنّ الموت يكون بتلك الطّريقة، ظلّت في جلستها، جسدها في مكانه، ظهرها مسند إلى العمود الأبيض المغلّف بالحرارة والضّوء. لكنّ الحركات كانت تغيب أو هي تنحل أمامها. لم تكن تستطيع منعها. كانت تشعر بكلّ ما كان يغادرها يبتعد عنها بسرعة كبيرة كطيران الزّرازير أو كزوبعة غبار. كانت حركات يديها ورجليها كلّها والاختلاجات الدّاخلية والرّعشات و الارتجافات، كلّ ذلك كان يذهب عنها بسرعة إلى الأمام ، مدفوعا في الفضاء باتجاه الضّوء والبحر. لكنّه كان شيئا لذيذا لم تستطيع لولابيا الصّمود أمامه. لم تغمض عينيها، الحدقتان تزدادان اتّساعا، كانت تنظر مباشرة أمامها، دون أن ترمش، نحو نفس النقطة دائما، على خطّ الأفق الرّقيق، هناك حيث الانثناءة بين السّماء والبحر.
كان تنفسّها يزداد بطأ ودقّات قلبها تتباعد شيئا فشيئا، لقد انعدمت الحركة تقريبا، كأن لم تعد فيها الحياة. نظرتها فحسب كانت تتّسع وتمتزج بالفضاء كحزمة ضوء. شعرت لولابيا أنّ جسدها ينفتح بهدوء مثل باب وهي تنتظر أن تلتحق بالبحر. كانت تعرف أنّ هذا سيحدث بعد حين لذلك لم تعد تفكّر في شيء، إنّها لا تريد شيئا آخر، سيبقى جسمها وراءها بعيدا، سيصير كالأعمدة البيضاء والجدران المغلّفة بالجبس، ثابتا، صامتا، كان ذلك هو سرّ البيت. الوصول إلى أعلى البحر، تماما في قمّة الجدار الأزرق الكبير، حيث يمكن أخيرا أن نرى ما يوجد في الجهة الأخرى. كان نظر لولابيا ممدّدا يحلّق فوق الهواء وفوق الضوء وفوق الماء.
لم يكن جسدها باردا كما الموتى في غرفهم، كانت الأضواء تواصل الدّخول إلى عمق أعضائها بل إلى غاية دواخل العظام،كانت تعيش بنفس حرارة الهواء كالسّحالي.
كانت لولابيا مثل غيمة، مثل غاز تختلط بما يحيط بها. كانت كرائحة الصنوبر المدفّئ بالشّمس فوق الجبال، أو كرائحة العشب الذّكية بالعسل. كانت ضباب الأمواج أين يلمع قوس قزح السّريع، كانت الرّيح، ذاك النّفس البارد الآتي من البحر، ذاك النفس الدّافئ كاللّفح الآتي من الأرض المختمرة عند أسفل الأدغال. كانت الملحَ، الذي يلمع كالجليد فوق الصّخور القديمة، أو ملح البحر، ملح الوهاد البحريّة الثّقيل و الحامض. لم تعد هناك لولابيا واحدة تجلس في شرفة بيت يوناني مهدّم، كانت متعدّدة كومضات الضّوء فوق الأمواج.
كانت لولابيا تنظر بملء عينيها، من طرف إلى آخر، فترى أشياء لم تكن تتصوّرها قديما. أشياء صغيرة جدّا، مخابئ حشرات، وديدان وأوراق نباتات لزجة وجذور.كانت ترى أشياء كبيرة، ظهور السّحب، والكواكب وراء شاشة السّماء والقباب القطبية والأودية العظيمة والقمم في أعماق البحر البعيدة اللاّمتناهية. كانت ترى كلّ هذا في نفس الوقت وكانت كلّ نظرة تدوم أشهرا بل سنينا، لكنّها كانت ترى دون أن تفهم لأنّ ذلك لم يكن غير حركات جسمها وقد انفصل عنها يقطع الفضاء أمامها.
كانت وكأنّها تستطيع في النهاية، بعد الموت، أن تفحص القوانين التّي تكوّن العالم. نواميس غريبة لا تشبه تلك التّي تقرأ في الكتب وتحفظ عن ظهر قلب في المدرسة. كان هناك قانون الأفق الذّي يجذب الجسم، قانون طويل ورقيق جدّا، خطّ صلبٌ يجمع كرتي السّماء والبحر المتحرّكتين. كلّ شيء، هناك، يولد ويتوالد مكوّنا تشكيلة من الأرقام والعلامات تعتّم الشمس و

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow