Alef Logo
ابداعات
              

ضباب تل ابيـــــــــــــــب

جـودت عيـد

2008-01-26

عندما كنت صغيرا... كنت أرافق والدي في أيام العطلة المدرسية الى بعض الأماكن التي كان يرتادها لاتمام عمل ما وكان يضطر أحيانا السفر من الناصرة الى تل أبيب أو الى حيفا لهذا الأمر. وعندما كان يصطحبني معه كنت أشعر بفرح كبير لما يكتنفه هذا " المشوار" المشوّق.
في أحد تلك الأيام اضطر والدي السفر الى تل أبيب رغم المطر الشديد والضباب في ذلك اليوم. وكان قد طلب مني ومن أخي مرافقته مع أن والدتي آثرت أن نبقى معها في بيتنا الدافيء، الاّ أن المغامرة كانت أقوى في جذبنا للذهاب مع والدي وفي بضع دقائق كنا حاضرين "للمشوار" واقتنعت والدتي أنه لامحالة...رغم البرد والمطر.
وصلنا بعد ساعتين من السفر في فياضانات المطر المنهمرة بغزارة على زجاج نوافذ السيارة، التي كانت تضفي شيئا من الرهبة وشيئا من الدفء !!!... من الصعب تفسير هذا الاحساس بالذات عندما تنبعث رائحة


المطر الممتزج بالتراب...بينما تلاحق عيوني كل الصور الملونة من بيوت وحقول وشجر في اللحظة العذراء حين يغسلها المطر من غبار الشوارع المتراكم...
دخلنا المدينة المكتظة بالسيارات والعمارات والدخان الذي يختلط بالضباب... كان يومها الضباب كثيفا جدا حتى أننا لم نستطع رؤية الشمس هناك. وبقيت أطراف بناطيلنا أنا وأخي مبتلة طوال الوقت إذ اضطررنا أن ننـزل من السيارة ونسير في بعض الشوارع " الطوفانية". وعندما كانت قد قاربت ساعة الظهيرة دخلنا أحد المطاعم الصغيرة المترامية على حفاف الطريق الموحلة وقد كان باب المطعم خشبيًّا صغيرًا، ينبعث من شباكه ضوء أصفر ضعيف يوحي بالدفء، ينادي الأجساد المرتجفة لتتّقي الزمهرير!!
دخلنا ذلك المطعم المعتم نسبيا ودخلت معنا رائحة المطر والوحل وتركنا آثار أقدامنا الرطبة ما بين الباب والطاولة التي احتضنت أجسادنا الصغيرة الباردة والجائعة... وكان أروع ما يمكن أن يكون في هذه اللحظة هو صحن من الحساء الساخن... لقد تكلم والدي مع النادل ولم نفهم شيئا غير أن صحون الحساء أتت ومعها الدخان المتصاعد يتراقص أمام عيوننا... أذكر أنه وضع الصحون على طاولتنا ولم ينبس بكلمة لكنه بحركة سريعة وضع أيضا صحنا فيه زبدة وأربعة شرائح من الخبز" الافرنجي"... وذهب.
كنت منهمكا في احتساء كل الحساء في الصحن، لكني أذكر أنني كنت أسأل طوال الوقت كل الأسئلة الممكنة وبصوت مرتفع لأن صوت المطر كان يطرق نافذة المطعم ويمتزج مع قصف الرعد المستمر الغاضب ومع الهرج من الطاولات حولنا وكأن الناس يتحدثون ليدفئوا حلوقهم بغير الحساء أيضا !!! لم أفهم كنه الحديث الذي كان يدور فكانت الضوضاء سيدة الموقف من جهة ولم أفهم لغة الناس، من جهة أخرى، لأنها لم تكن كتلك التي أتكلمها مع والدي ووالدتي في البيت... لكني سمعت والدي يتحدث بها مع النادل ومع بعض الأشخاص الذين التقينا معهم خلال ذلك اليوم...
في خضم هذه الضوضاء "المحيطية" القسرية ورغم مهرجان وقع المعالق فوق صحون الحساء محاولة امتصاص آخر قطرة دفء فيه، فقد كانت ضوضاء أخرى تحيط طاولتنا بالذات وكانت قبيلة من العيون تدور حولنا وتقرع الطبول وتحدّق بنا الى درجةٍ شعرتُ بها بالارتباك وذلك لعدم تمكّني من السؤال عن السبب الذي يجعل هذه العيون تحوم حولنا نحن بالذات وأيضا لعدم إيجاد أي إجابة... غير أنه ارتابني نوع من الخوف بسبب ملامح الوجوه غير الودودة وغير الباسمة المحدقة بنا !!!
عندما عدنا الى بيتنا الدافيء أخبرنا والدتي بتلهف عن المشوار وعن متعتنا الكبيرة بالرغم من المطر والبرد وبنطالاتنا المبللة من أطرافها...
* * *
مرّت عقود من الزمن... وحدث في أحد الأيام الماطرة أن اضطرت زوجتي السفر الى تل أبيب لاتمام عمل ما وقد كان يوم عطلة لنا، فرافقتها وبصحبتنا طفلتنا الى المدينة الكبرى والقلب النابض في البلاد... عندما وصلنا اصطحبت طفلتي الى أحد المجمّعات التجارية الضخمة، بعيدا عن المطر والبرد، لقضاء الوقت والتجوال بين الحوانيت عَلّني أجد أي شيء لاشغال طفلتي ساعة من الزمن حتى تنهي زوجتي عملها.
قفزت طفلتي وركضت وأفلتت يدي ولعبت في المساحات الممتدة الكبيرة بين الحوانيت والمزروعة بألعاب الأطفال المثيرة حتى وصلنا الى باحة كبيرة (مثل باقي المجمعات التجارية) محاطة بشتى المطاعم للأكل السريع الذي يعشقه الأطفال ... وبعض الكبار!
بعد الممرات الطويلة من العيون الفاحصة والمرتبكة ... ربما كانت أصوات طفلتي، السبب في مطاردة النظرات غير الودودة لنا... لكننا وقفنا تماما مثل غيرنا وطلبنا طعامنا ودفعت الحساب وحملنا الصينية وهرولنا باتجاه الطاولة القريبة التي ستحتضننا... سألتني طفلتي: "ماذا قالت لك البائعة؟ ... ماذا قلت لها؟..." طفلتي ما زالت تتعلم الأحرف الأولى من اللغة العبرية في المدرسة ولم تكن قادرة بعد على فهمها أو التحدّث بها...
عندما وصلنا الطاولة كانت العيون قد سبقتنا لتتفحص كل المحيط و"اللا محيط" من حولنا وكأننا وصلنا مسرحًا ينتظر الممثلين المشهورين وقد سلّطت الأضواء علينا... وراحت الجفون المتعبة تراقب كل ما نقوم به ، كل حركة، كل كلمة وكل لقمة يلوكها فمي أو يلوكها فم طفلتي الصغير الذي لم ينفك عن الحديث اللامتناه عن كل ما في العالم عدا هذه العيون المتوترة !!!
ما أقوى وقع الكلمات من فمي ومن فم طفلتي في تلك اللحظات!! لتشدّ الانتباه... ما أقوى الكلمات ... تجعلك قديسا وتجعلك ملحدا، تجعلك إرهابيا، تجعلك جزءا من وطن وتجعلك غريبا في وطن، تجعلك مواطنا وتجعلك لاجئا ... الامكانيات لا تنتهي في هذا الضباب والمطر المنهمر فوق سطوح تل أبيب الرماديّة.
أنهت زوجتي عملها والتقينا في السيارة... زوجتي، طفلتي وأنا وصمتي وضحكات طفلتي عندما كانت منهمكة في إخبار والدتها بتلهف عن الألعاب التي لعبت بها وكم كانت هي متعتها وماذا أكلت...
أما أنا فآثرت الصمت الذي كان يملأ المسافة بيني وبين مذياع (راديو) السيارة الذي كان يذيع نشرة الأخبار وجاء بخبر يتحدث عن سَنّ قانون يلغي اللغة العربية كلغة رسمية ثانية بعد العبرية في البلاد ... آثرت الصمت واحتفظت في كل كلماتي ... لأن الكلمة هي كل ما أملك!
* * *
أطفئت المذياع (الراديو(...
واصلت السفر بين زخات المطر الرمادية المختلطة في عباب الضباب المترامي... اللامتناهي...




تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow