"أول مرة صنعنا فيها خمرا كانت عندما غليت نعناعا بالسكر، وأحكمت إغلاقه في غالون بلاستيكي مدة أحد عشر يوما. لا أدري أين قرأت ذلك، ولكنني عندما فتحت الغالون، وصفيت السائل المصفر، وتذوقته، أحسست بنشوة صغيرة تدغدغ جوفي. وتقاسمنا الخمرة في المهجع. دارت الكأس ودارت الرؤوس، وكان نجاحا باهرا. على أن تلك كانت البداية. بعدها خمرنا عنبا وتينا وتمرا وتفاحا وخبزا (!!) ثم اخترعنا "الكركي." و الكركي هو جهاز تقطير الخمر لتحصل على العرق. كان ذلك إنجازا كبيرا، وفي الحمام كان أبو عزيز يجلس قرب الكركي، يضع الخمر في وعاء كبير فوق النار، ثم يراقب تبخره ومروره في أنبوب بلاستيكي ثم نزوله في وعاء آخر نقطة، نقطة: طق.. طق.. طق.. وبجانبه كأس صغيرة مملوءة بالعرق الساخن الطازج. ولماذا لا تبرده يا أبو عزيز. له له لا تغلط. هذه أصول المهنة. ليلة رأس السنة، في صيدنايا، كنا نقيم مأدبة كبيرة، يرتدي ياسر جلبوط ملابس بابا نويل ويبدأ بالتجول في المهاجع، يتبعه عدد من الرفاق يغنون ويهزجون. ثم تبدأ الوليمة، فتدور الخمرة ويدور الرأس و الشعر والأصدقاء، وتدور الدموع في المآقي. ثم يأتي الحراس. بلا ضجة يا شباب. طيب. ثم يأتي سجان لطيف حلو المعشر، فيطلب سرا كأسا أو كأسين له وللشباب. ويقول أبو عزيز :"أعطوهم يا أخوان." نعطيه ونضحك ونسأل أينا السجان، إذن؟" ** وأفضل من الخمرة كان ظرفاء المهجع. على رأسهم كان هيثم يوسف "أبو عزيز." كنا نتحلق حوله ساعات يحدثنا عن شخصيات خارقة من قريته الجبلية الجميلة. أهم هذه الشخصيات كان عزيز، ومنه نال أبو عزيز كنيته تلك. والذي أطلق عليه تلك الكنية كان عماد الذي أسمى نفسه أبا مشعل وأسمى عمادا الآخر أبا سعيد الخدري، لاهتمامه بالتاريخ، ثم أسمى منصور أبا خلف، ولذلك قصة أخرى، نسردها لاحقا. أبو عزيز هو خلاصة السجن. كان يفيق صبيحة كل يوم، مبكرا، ليشرب المتة، ويرتدي ملابسه، ويجلس بانتظار إخلاء السبيل. جعل ينتظر ذلك سبع سنين طوال، ولم يشأ أن ييأس. " يا الله يا شباب عالسخرة." " بكير يا أبو عزيز." " له.. له.. لا تغلط. بركة إجا إخلاء السبيل قبل أن ننهي السخرة؟" بعد انتهائه من كل أعماله، يبدأ أبو عزيز يحدثنا عن قريته وعزيز وحبيب وخدمته العسكرية والرفيق الذي نظمه في الحزب والمحقق الذي حقق معه. وفي كل يوم يزيد شعره شيبا ويخسر سنا جديدة من أسنانه، وتبرق عيناه الجميلتان المسيحيتان بألق جديد. ** في المهجع الخامس اكتشفنا إضافة الطحينة والبهار إلى البطاطس المسلوقة التي كانوا يقدمونها كعشاء لنا خمس مرات في الأسبوع. وكان لصنع أول إبريق من الشاي المتعة نفسها التي خبرها أول من غلى الورق الأسمر مع الماء في الصين قبل آلاف السنين. ثم طهونا أول طبخة لنا على سخان كهربائي. وضعناها قبل الظهر، وأكلناها حين نضجت مساء. ثم اخترعنا ورق اللعب وصنعنا طاولة زهر ورقعة شطرنج مع الأحجار. كانت المادة السحرية لكل ذلك هي الخبز المنقوع بالماء والسكر، الذي يشكل عجينة لزجة شكلتها أيادي فنانين كحسن وزياد فصارت ملكا ووزيرا و فيلا وبيادق. نظمنا دوريا للشطرنج وآخر لطاولة الزهر. على أن لعبة "التريكس و"الواحد والأربعين" كانتا أفضل تزجيه للوقت. **
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...