Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

ظل الإمبريالية / ستيفين أنغيل ترجمة:

صالح الرزوق

خاص ألف

2013-11-21

حينما أبحر أورويل إلى رانغون على متن إس إس هيرفيدشير في شهر تشرين الأول من عام 1922 كان يزيد قليلا عن التاسعة عشرة من العمر. قبل ما ينوف على العام فقط غادر إيتون، و هي ذات مناخ يمكن لك أن تتخيل كم هو مختلف عن المناخ الذي سيرحل إليه. و لقد تناولت الغموض الذي يلف دوافع أورويل للرحيل شرقا في مقالة سابقة و اقترحت أن مزيجا من الدوافع و المحرضات لعبت دورا ملحوظا. و قد أكد صديقه في إيتون، و هو المؤرخ السير ستيفين رونسيمان ( زميل أورويل في مغامراته مع السحر الأسود )، أن أورويل قد عقد عزمه على الرحيل شرقا في وقت مبكر. " كان من عاداته الاستطراد في الكلام عن الشرق، و قد تكون لدي دائما الانطباع أنه يحن للعودة إلى المشرق. و أقصد إن ذلك كان عبارة عن فكرة رومنسية لديه...".

بالتأكيد إنه رومنسي، و بالمعنى الحقيقي لتلك الكلمة: لم يكن أورويل في الثانية من العمر حينما غادر الهند مع والده الذي بالكاد استطاع أن يشغل ذهن ابنه بحكايات مزخرفة عن شجاعة الإمبريالية. لقد وهب آر. دبليو بلير حياته في الخدمة ( في قسم المخدرات) لاتجاه غير متميز و غامض جدا. و كان من واجب هذا القسم الإشراف على إنتاج و جني الحشيش في الهند ثم توزيعه في الصين.

حصل ريشارد بلير بعد سبعة و ثمانين عاما في الوظيفة على ترقية من صفة عميل مساعد لترويج المخدرات إلى صفة نائب عميل ( و هي الرتبة الأولى). و قد أشار ميشيل شيلدين إلى تجارة الحشيش على أنها " إحدى أسوأ الصفات الشيطانية في تاريخ نظام المستعمرات البريطانية". و كان كلما تقدم أورويل بالعمر في إيتون في هذا الجو المتميز و الذي تتوفر له الحماية، كانت تنتابه الشكوك حول إنسانية دور والده في النشاطات الإمبريالية الواسعة. و مع ذلك، و مهما كانت الأفكار التي تشكلت في ذهنه، لم يعدم الطموح و هو يغادر إيتون أن يأمل بالانضمام لهذه الوظيفة. و بلا شك إن والديه، اللذين ينظران للوظيفة المدنية في المستعمرات على أنها ذات مردود و جاه لا يمكن إنكارهما، قد ساعدا على تثبيت و فرض الفكرة الرومنسية عن طبيعة أورويل الشاب.

علاوة على ذلك، بحثت وطنية أورويل، التي لا تدانيها الشكوك، عن مخرج تعبر به عن نفسها. و مثل العديد من أبناء جيله، لقد أكله الندم لأنه " لم يشهد" الحرب العالمية الأولى ، فقد كان يرغب أن يختبر بها نفسه. و لن تجد شخصا واحدا من كتاب سيرة حياته أو نقاده، الذين قرأناهم، قد حمل على محمل الجد الاحتمال التالي: إن أورويل يعتبر نهجه العملياتي الذي اختاره لحياته ، ربما باللاشعور فقط، فرصة ممتازة بها يحوز على خبرات يكتب عنها.

إن كل شيء نعلمه عن أورويل يتحدث بصوت مرتفع عن مركزية الكتابة في حياته و في تحديد طموحاته. لماذا إذا لم يتم تضمينها بين اهتماماته و تطلعاته عام 1922؟. على أية حال، يجب أن لا ننسى أن أورويل قرأ، و في الحقيقة كتب، الكثير قبل أن يصل للثمانية عشرة عاما من عمره و لم يكن يظهر بمظهر رجل مستعد للعمل أو أكاديمي فاشل ( و هو الاحتمال الثاني لحياة مهنية ممكنة). إن الخبرة العسكرية التي حصل عليها في بلد شرقي كانت ميدانا يستطيع أن يكتب فيه. و يبدو أنه كتب القليل، حين كان يتلقى تدريباته في بورما، و في مرحلة لاحقة، و على وجه اليقين تقريبا، أنجز خواطر و مقتطفات دخلت في صلب روايته الأولى.

مهما كانت حالة أورويل خلال وجوده على متن هيرفوردشير، لم تكن لديه أدنى فكرة عن الواقع الذي بانتظاره. في نفس الوقت، كان واحدا من تسعين من ضابط شرطة بريطانيا مسؤولا عن حفظ النظام المدني في بلد يحتقر على وجه العموم أسياده البريطانيين. و يذكر نيوسينغر أن الحركة الوطنية الثورية بدأت بالإعلان عن نفسها بشكل محسوس منذ العشرينات، و لم يسجل أحد شيئا مثل ذلك على هذا المستوى الواسع إلا في الهند. و كما ورد على لسان جاسينثا بوديكوم بدأ أورويل بوقت قياسي يقلق من حياته في بورما. و يذكر آخرون جانبا آخر من بواكير حياته. فقد زاره كريستوفير هوليس، و هو رجل كبير من إيتونيا، في عام 1925 و رأى أنه إنسان مقسم بين أخلاق شرطي تقليدي يعمل في المستعمرات و بين ناقد راديكالي يوجه سهام انتقاداته إلى الإمبريالية.

لقد أخبر هوليس إن الحرية و التحرر " لا يتماشيان مع العبيد السود". و كالعادة أصبح من المستحيل أن تضع أورويل في مربع خاص به، و لكن محادثاته مع هوليس قد تمثل فقط ألفاظ النقاش الصامت الذي كان يدور في رأسه، و لذلك كان مضطربا. ونحن نعلم أنه اعتمد على أديلفي، جريدة ميديلتون موراي، على سبيل المثال، ليبين ارتباطاته الراديكالية: و لكن نحن نعلم أيضا أنه انتقى بعض المقالات العادية لتكون الهدف في عملية التحليل و التفسير.

و لقد أقتنع أورويل لاحقا أن خبراته و تحاربه في الشرطة وفرت له حدا واضحا يسمو به على أقرانه من النقاد اليساريين و يسهل له فهم مشكلات الإمبراطورية. و في روايته أيام بورما يجد فلوري أنه يصعب عليه التعبير عن مكنونات و خواطر ذهنه في نادي " إكسبات" بسبب آرائه المتطرفة، و بلا شك بدأ أورويل، و هو شرطي صغير السن يعمل في المستعمرات، يجد نفسه في الفخ ذاته.

كان فلوري وحيدا و يشعر بالحنين لمسقط رأسه، و هكذا هو حال أورويل. و لكن على الرغم من عدم انسجام أورويل مع ظروف حياته في بورما، إن ما قاله فلوري إلى إليزابيث، و مفاده أن بورما فردوس إذا لم يكن المرء فيها وحيدا، إن هي إلا عبارة تشير فقط إلى غموض ما ذكرت سابقا. فوصف أورويل للرحلة بالقطار نحو الشمال من ماندالاي تقدم دعما إضافيا لهذا الغموض. انظر لهذه الفقرة: " البلشون الأبيض يقف صامتا، بلا حركة، مثل مالك الحزين، و أكوام من الفلفل الحار الجاف يلمع بلون قرمزي يخطف الأبصار تحت الشمس. و أحيانا تلاحظ باغودا تعلو فوق السهول المنبسطة و كأنها ثدي عملاقة مستلقية على ظهرها".

لقد تأثر بجمال البلد و بطيبة معشر أهله، و ربما لو تمكن من مقاسمة هذه الخبرات الغنية و تلك العثرات مع صديق حميم، مثل جاسينثا، ستكون الحياة، كما ذكر فلوري، مختلفة حقا.

و إذا كنا لا نستطيع أن نتيقن تماما بخصوص موقف أورويل المعقد من بورما أو عمله فيها، على الأقل لدينا خياله الفني الذي نستطيع العودة إليه، و هنا يمكن أن نقف على أرض ثابتة بشكل من الأشكال. في كتابات أورويل عن بورما حاول جهده أن يستفيد من تجاربه الخاصة، التي عمل عليها من خلال خيال قوي، حتى أصبحت نوعا من المجاز الذي ينسحب على كل تجارب الإمبريالية.

فيما بعد، سوف أبين، كيف بدأ بتركيب موديل يصف العلاقات الاجتماع سياسية في المجتمع الرأسمالي انطلاقا من نفس المجازات، ليعكس نفس الشبكة " الإمبريالية" بطريقة غير غامضة. و أود أن أذكر هنا موضوعين، الأول كي تخرج بالثيمات الدائمة لموديل أورويل عن الإمبريالية و لتختبر ثبوتيته و استقراره، و لتواصل معه حتى تنتظر باختصار إذا ما كان موديله يلقي بعض الضوء على العلاقات بين القادة و الأتباع، و هي علاقة تختص بالمفكرين السياسيين في هذه الأيام كما كان حالها منذ الأزل.

ثانيا و باختصار أشد، أرغب أن أؤكد أن ما أضافه أورويل لهذه النقاشات بشكل الخيال الفني يسمو على ما يقوم به ، جدلا، الفيلسوف و المؤرخ.




ستيفين أنغيل Stephen Ingle : كاتب و أكاديمي يهتم بالفكر الاجتماع سياسي. من أهم مؤلفاته الفكر الاشتراكي في أدب الخيال الفني، البرلمان و السياسة الصحية، سرديات الإشتراكية البريطانية، جورج أورويل : حياته السياسية، نظام الأحزاب في بريطانيا.



الترجمة من كتاب ( الفكر الاجتماعي و السياسي عند جورج أورويل - إعادة نظر ) للكاتب ستيفين أنغيل، منشورات روتدليدج، الطبعة الأولى ، 2006.



















تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow